أَصْحَابُ الظِّلِّ
الْخُطْبَةُ
الأولى
إِنَّ الْحَمْدَ
للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ
، وَمَنْ يَضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ : ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ﴾ ، أما بعد : عِبَادَ اللَّهِ ، حينَ تَنشُرُ الشَّمسُ أشعَّتَهَا
اللَّاهِبَةَ ويلسعُ لهيبُهَا الأجسادَ المنهَكَةَ ، حينَ يأتِي الصيفُ ويشتدَّ الحرُّ
ويعرَقُ الناسُ فِي كلِّ حركةٍ وتنَقُّلٍ ، ويبلُغُ الجَهدُ بالنَّاسِ مبلَغًا تضيقُ
بهِ نفوسُهُم ؛ فإنَّهم يُهرعونَ إلِى الظِّلِّ وإلى وَسائلِ التَّبريدِ .
إنَّ المسلمَ
يتذكَّرُ وِقْفَةً عظيمةً لَا مناصَ عنهَا وكُربَةً شديدةً لَا مفرَّ منهَا ، وذلكَ
حينَ يجمَعُ اللهُ الأوّلينَ والآخِرِينَ علَى صعيدٍ واحدٍ يُسمِعُهمُ الداعِي ويَنفُذُهُمُ
البَصَر ، حينَ تَدنُو الشمسُ منَ الرؤوسِ مقدارَ مِيلٍ ، فلَا ماءَ ولَا شجَرَ ، ولَا
ظلَّ ولَا مدرَ ولَا حتَى حَجَر ، إنَّها أرضُ السَّاهرةِ ، مُستَوِيَةٌ مبسوطةٌ ،
فأينَ المفَرُّ ؟! ، وإلَى أينَ يكونُ المستقَرُّ؟! ، أإلَى الجنَّةِ أمْ إلَى سَقَرَ
؟ ، إنَّه يومٌ تشتدُّ فيهِ الكُرْبَةُ وتضيقُ النُّفوسُ ، وليسَ ذلكَ فِي شهرٍ أوْ
شهرينِ ، إنَّه يومٌ مقدارُه خمسونَ ألفَ سنَةٍ ، حتَى يقضِيَ اللهُ تعالَى بينَ الخلائقِ
.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
، وفِي خِضَمِّ هذهِ الشَّدائِدِ والكُرَبِ وبَينَما النَّاسُ فِي هَمٍّ وغَمٍّ وعذابٍ
وضَنكٍ إذْ بِفِئامٍ مِنَ المؤمِنينَ ممَّنْ أكرَمَهُمْ اللهُ تعالَى ليسُوا مِنْ هذهِ
الشدَّةِ فِي شَيءٍ ؛ إنَّهمْ في ظِلِّ عرشِ الرَّحمنِ ، قدْ اصطَفَاهُمْ اللهُ فأكرَمَهُم
ورَعَاهُم فِي كَنَفِهِ وأحاطَهُم بلُطفِهِ ، فَهُمْ فِي ظلٍّ وارِفٍ حتَى يُقضَى بينَ
العِبادِ ، فِي الصحيحينِ أنَّ النبيَّ قالَ : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ
يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ ، إِمامٌ عادِلٌ ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه
تَعالَى ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ
، اجتَمَعَا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ
وَجَمَالٍ فَقَالَ : إِنِّي أَخافُ اللَّهَ ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاهَا
، حتَّى لَا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خالِيًا
فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» .
أيُّها المسلِمونَ
، إنَّ الجامعَ بينَ هذِهِ الأصنافِ السَّبعةِ هوَ خشيةُ اللهِ تعالَى بالغيبِ وتقواهُ
فِي السرِّ والعلَنِ ، وتقديمُ أمرِ اللهِ علَى هوَى النَّفسِ معَ قُدرتِهمْ علَى خِلافِهِ
؛ فالإمامُ يعدِلُ معَ قدرتِهِ علىَ الحيفِ والظُّلمِ ، لَكَّنَهُ عظَّمَ اللهَ فِي
قلبِهِ وعلِمَ قدرتَهُ عليهِ ووقَرَ الإيمانُ فِي قلبِهِ ، فاتَّقَى اللهَ فِي أمانتِهِ
، وبَدَأ بهِ لكَثرةِ مصالحِهِ وعمومِ نَفعِهِ .
أمَّا الشابُّ
الذِي نشَأ فِي عبادةِ اللهِ فقَدْ شَبَّ وتَرَعرَعَ متلبِّسًا بالعِبادةِ مُلتَصِقًا
بَها ، لمْ تُلهِهِ فُتوَّةُ الشّبابِ ، ولمْ يَغُرَّهُ طولُ الأمَلِ ، بلْ غلَبَ نفسَهُ
فِي عُنفُوانِ شبابِهِ ومَلأَ قلبَهُ الإيمانُ والتَّقوَى ، فنشأَ فِي طاعةِ اللهِ
وعبادتِهِ .
وأمَّا
الذِي تعلَّقَ قلبُهُ بالمساجِدِ فهوَ شديدُ الحبِّ لهَا والملازمَةِ للجماعَةِ فيهَا
، فقَلبُهُ معَ الصَّلاةِ وفِكرُه مشغولٌ بَها ، يتحيَّنُ وقتَهَا ، ويترقَّبُ نِداءَهَا
، ويتحرَّى إقامَتَها ، لَا يكادُ ينتهِي مِنْ صلاةٍ حتَى يشتاقَ للأخرَى ؛ إنَّهُ
الأُنسُ باللهِ .
أمَّا الحبُّ
فِي اللهِ فهوَ مِنْ أوثقِ عُرَى الإيمانِ ، وهوَ عملٌ قلبيٌّ يطَّلعُ عليهِ مَنْ يَعلَمُ
خائنةَ الأعينِ ومَا تُخفِي الصُّدورُ ، فهوَ سبحانَه أعلَمُ بمَن أحبَّ للهِ ووَالَى
فِي اللهِ ، اجتَمَعَ المسلِمَانِ علَى المحبَّةِ والمودِّة للهِ وفِي اللهِ ، لمْ
يجمَعْهُمَا عرَضٌ مِنَ الدُّنيَا زائِلٌ ، ولَا طَمَعٌ فِي مالٍ ولَا جَاهٍ ، بلْ
هوَ الصِّدقُ والإخلاصُ .
أمَّا العفيفُ
الوَرِعُ فمعَ اجتِماعِ أسبابِ المعصيَةِ وتوفُّرِ دواعِيها وقُدرتِه علَى الحرامِ
فِي حالِ الخَلوَةِ والأمانِ إلَّا أنَّ خوفَ اللهِ فِي قلبِهِ أعظمُ مِنْ هذه الفِتنةِ
وأقوَى مِنْ هذَا البلاءِ .
والمنفِقُ المتصدِّقُ
بالغَ فِي الإخلاصِ وأبعَدَ عنِ الرِّياءِ ؛ يبتَغِي بذلِكَ وجهَ اللهِ .
والأخيرُ
رَقيقُ القلبِ حاضِرُ الإيمانِ ، إنَّه المختَلِي بدمعَتِهِ ، لمْ يُراءِ بِهَا ، إنَّ
الإنسانَ ليقدِرُ علَى النشيجِ والصُّراخِ أمَامَ النَّاسِ مجاراةً لهُم أوْ تأثُّرًا
بهِم ، لكنْ مَنِ الذِي يذكُرُ اللهَ فِي الخَلوةِ فتَفيضُ عينُه ويَهمُلُ دَمعُهُ
خشيةً وهيبةً ورجاءً وخوفًا ومحبّةً وشوقًا ؟! ، إنَّه الإيمانُ واليقينُ .
بَارَكَ اللهُ
لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَنَفَعْنَا بِمَا فِيهُمَا مِنَ الآياتِ
وَالْحِكْمَةِ ، أَقَوْلُ قَوْلِي هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى لِي وَلَكُمْ
.
الْخُطْبَةُ
الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ
حَمْدًا كَثِيرًا طِيبًا مُبَارَكًا فِيه كَمَا يُحِبَّ رَبَّنَا وَيَرْضَى ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ لَا إلَهٌ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيه وَعَلَى آله
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . أَمَّا بَعْدُ :
عِبَادَ اللهِ
، هذِه الْمُثُلُ العاليةُ والمواقِفُ الجلِيلَةُ ليسَتْ سَهلَةَ المنالِ ، إنَّها
مَواقفُ يُؤثِر فِيهَا المؤمِنُ رِضَا اللهِ علَى رِضَا غيرِهِ وإنْ عَظُمَتْ فيهِ
المحَنُ وثقُلَتْ فيهِ الْمُؤَنُ وضعُفَ عنهُ الطُّولُ والبَدَنُ ، وكمْ مِنْ غافلٍ
يظنُّهَا يسيرةً هيِّنَةً ومَا دَرَى أنَّهُ لَا يُوَفَّقُ لَها إلَّا المخلَصونَ ،
وقدْ يَرَى الإنسانُ نفسَهُ قادرًا علَى الصُّمودِ لكنَّه إذَا فُتِنَ افتَتَن وإذَا
ابتُلِيَ فشَلَ .
وَإِنَّ
الَّذِي يَبْغِي النجاةَ والفلاحَ والعِصمةَ والنجاحَ ليتعاهَدُ إيمانَهُ حتَى يتوصَّلَ
إلَى الكَمَالاتِ ، ويمتَلِئَ قلبُهُ بالإيمانِ واليقينِ والخوفِ مِنْ ربِّ العالمينَ
والخشيةِ والإخلاصِ ، عِندهَا تفيضُ النَّفسُ بالأعمالِ الصَّالحةِ وتَنزَجِرُ عنِ
الرَّذائِلِ وتَثبُتُ عندَ الفِتَنِ ، وهذَا لَا يحصُلُ معَ التوانِي والكَسَلِ ، فلَابدَّ
مِن تفقُّدِ النَّفسِ ومجاهَدَتِها ، واللهُ تعالَى يقوُل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
عِبَادَ اللَّهِ
، ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ علَى
عبدِكَ ورسولِكَ نبيِّنا محمدٍ ، وارضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلفائِه الراشدينَ وَعَنْ
الصَّحَابَةِ أَجَمْعَيْنْ ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ
الْإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَأذِلَّ الشَّرَكَ وَالْمُشْرِكِينَ ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ
الدِّينِ ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلاَةَ
أَمُورِنَا ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ
لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبَرِّ وَالتَّقْوَى ، اللَّهُمَّ
وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ الْعَهْدِ لَمَا فِيه صَلاَحُ الْبِلادِ وَالْعُبَّادِ .
اللَّهُمَّ
إنَّا اُسْتُودَعْنَاكَ جُنُودَنَا وَرِجَالَ أَمْنِنَا فأحرُسهمْ بِعَيْنِكَ الَّتِي
لَا تَنَامُ وَأَعِنْهُمْ ، اللهُمَّ لا تَدَعْ لنا في مقامِنا هذا ذنباً إلا غفرتَه
، ولا همَّاً إلا فرَّجْتَه ، ولا كرباً إلا نَفَّسْتَه ، ولا دَيْناً إلا قضيتَه ،
ولا عيباً إلا سترتَه ، ولا مَيْتَاً إلا رحمتَه ، ولا مريضاً إلا شفيتَه ، ولا حاجةً
من حوائجِ الدنيا والآخرةِ هي لك رضاً ولنا فيها صلاحٌ إلا أعنتَنا على قضائِها بيسرٍ
منك وعافيةٍ ، يا أرحمَ الراحمين .
سُبْحَانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
تعليقات
إرسال تعليق