خطورةُ التَّهَاوُنِ باللعْنِ
الخطبةُ الأولى
الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طَيِّباً مُباركاً فيه كما يحبُّ ربُّنا
ويرضى ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً
عبدُه ورسولُه ؛ صلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين . أمّا بعدُ :
أَيَّهَا الْمُسْلِمُونَ : أُوصِيكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ ، فإنَّ تقوى
اللهِ فوزٌ ونجاةٌ ، وإنَّ معصيتَه خسارةٌ وهلاكٌ .
أيها المسلمونَ : مُنْكَرٌ عَظِيمٌ ، تَذْهَبُ مَعَهُ الْحَسَنَاتُ ،
وَخَصْلَةٌ سَيِّئَةٌ تُغْضِبُ رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ، تَسَاهَلَ
فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَعْمَارِهِمْ وَثَقَافَاتِهِمْ ؛
فَنَشَأَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ ، وَدَرَجَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ ؛ إِنَّهَا آفَةُ
َاللَّعْنِ . وَإِنَّهُ لَيَعْجَبُ كُلُّ عَاقِلٍ مِمَّا يَسْمَعُ مِنْ لَعْنٍ
وَسَبٍّ وَتَسَاهُلٍ فِي هَذَا الْمُنْكَرِ الْخَطِيرِ ، فَتَسْمَعُونَ مِنْ
بَعْضِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ مَنْ يَقَعُ فِي لَعْنِ الْأَبْنَاءِ
وَالْبَنَاتِ ، وَهُنَاكَ أَصْدِقَاءُ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَرُدُّ عَلَى صَدِيقِهِ بِسَبِّ أُمِّهِ وَأَبِيهِ ، بَلْ لَرُبَّمَا
تَسْمَعُونَ مَنْ أَصْبَحَ يُحَيِّي صَاحِبَهُ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ بِاللَّعْنِ
وَهُوَ يَضْحَكُ ، وَالْآخَرُ يُبَادِلُهُ بِالْمِثْلِ ؛ وَكَأَنَّ شَيْئًا لَمْ
يَكُنْ ، ويظهرُ جليَّا أثناءَ اللَّعِبِ والمنافساتِ ، وعندَ اشتدادِ
الحِوَارَاتِ والمكالماتِ ، ونسمعُها من بعضِ سائقي السَّيَّاراتِ ، فَكَمْ
سَمِعْنا من مسلمٍ يتسوَّرُه الغضبُ على مسلمٍ فيقولُ : لعنُه اللهُ إلى آدمَ ،
فَكَمْ في سلسلةِ النَّسَبِ إلى آدمَ من نبيٍّ ورسولٍ ، ومَنْ لَعَنَ نبياً أو
رسولاً فقد كَفَرَ .
والبعضُ يلعَنُ دينَ أخيهِ المسلمِ فيقولُ مَثَلا لعنةُ اللهِ على
دينِكَ ، وهذا كفرٌ صُرَاحٌ لسبِّه دينَ ربِّ العالمين .
عِبَادَ اللَّهِ : اللَّعْنُ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ ،
قَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» رواه الإمامُ
أحمدُ وهو حديثٌ حسنٌ ، قيلَ في معناه : لعنُ المؤمنِ كقتلِه في الإثمِ .
وَقَالَ الصحابيُّ الجليلُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : ((كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الرَّجُلَ يَلْعَنُ أَخَاهُ ، رَأَيْنَا
أَنَّهُ أَتَى بَابًا مِنَ الْكَبَائِرِ)) رواه الطبرانيُّ وهو أثرٌ صحيحٌ .
واللعنُ ليسَ من صفاتِ المؤمنين الكُمَّـلِ ، قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ ، وَلَا اللَّعَّانِ
، وَلَا الْفَاحِشِ ، وَلَا الْبَذِيءِ» رواه الترمذيُّ وهو حديثٌ حسنٌ .
وَاللَّعَّانونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يكونونَ شهداءَ ولا شفعاءَ ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ
وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه مسلمٌ .
معناهُ : لا يَشْفَعُون يومَ القيامةِ حينَ يشفعُ المؤمنونَ في
إخوانِهم الذين استَوْجَبُوا النارَ ، وقولُه : «ولا يكونون شُهَداءَ» ، في معناها
ثلاثةُ أقوالٍ : لا يكونونَ شهداءَ يومَ القيامةِ على الأُمَمِ بتبليغِ رُسُلِهِم
، والثاني : لا يكونون شهداءَ في الدنيا ، أيْ لا تُقْبَلُ شهادتُهم لفِسْقِهم ،
والثالثُ : لا يُرْزَقون الشهادةَ وهي القتلُ في سبيلِ اللهِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : ومَنْ لَعَنَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ اللَّعَنَ ،
فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهَا ، قال صلَّى الله عليه وسَلَّمَ :
«إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعَدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ ،
فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا ، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ
فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا ، فَإِذَا
لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ
أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا» رواه أبو داوودَ وهو حديثٌ حسنٌ
.
ومِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ اللَّعْنِ لَعْنُ الْإِنْسَانِ
لِوَالِدَيْهِ - عِيَاذًا بِاللَّهِ - ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَ هُوَ بِلَعْنِهِمْ أَوْ
كَانَ سَبَبًا فِي لَعْنِ الْآخَرِينَ لِوَالِدَيْهِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ
وَالِدَيْهِ» ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ
وَالِدَيْهِ ؟ ، قَالَ : «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ
وَيَسُبُّ أُمَّهُ» رواه البخاريُّ ومسلمٌ .
وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
«لَعَــنَ اللَّهُ مَنْ لَعَــنَ وَالِدَيْهِ» ، رواه مسلمٌ .
ونهى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عن لعنِ أيِّ شيءٍ من
الدوابِّ أو الحيواناتِ أو الجماداتِ كالريحِ والحُمَّى والدَّهْرِ ، روى مسلمٌ في
صحيحِه من حديثِ عِمْرَانَ بنِ حصينٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ : بينما رسولُ اللهِ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بعضِ أسفارِه وامرأةٌ من الأنصارِ على ناقةٍ
فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْها ، فسمعَ ذلك رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّمَ فقال :
«خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا ، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» .
وروى أبو داوودَ في سُنَنِه من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنه
أنَّ رجلًا لَعَنَ الريحَ ، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : «لَا
تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ
بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ» .
عبادَ اللهِ : تأمَّلُوا في خَطَرِ اللعنِ أنَّ أمَّ المؤمنين عائشةَ
رضيَ اللهُ عنها قالت : إنَّ اليَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ ، بحذفِ اللامِ ، والسَّامُ : هو الموتُ ،
فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : «وَعَلَيْكُمْ» ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضيَ
اللهُ عنها : ((السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ)) ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ ،
عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ أَوِ الفُحْشَ» ، قَالَتْ: أَوَلَمْ
تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ ، قَالَ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ، رَدَدْتُ
عَلَيْهِمْ ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ» رواه
البخاريُّ ومُسْلِمٌ ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ» ،
أيْ تَمَهَّلِي ، وأمَرَها بالرفق وحذَّرها من الشِّدَّةِ ونهاها عن اللعنِ ،
صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ؛ فكيف الحالُ بمَن أصبحَ اللعنُ في لسانِه أكثرَ من
السَّلامِ ؟ ، ولهذا ينبغي على المسلمِ أنْ يتَّقِيَ اللهَ في نفسِهِ ، وأنْ يصونَ
لسانَه وأنْ يحذرَ مِن اللعنِ ، فإنَّه سيُسألُ عما يقولُ يومَ القيامةِ .
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ
وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ وحدَه ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ
وآلِهِ وصحبِهِ أجمعين ، أَمّا بَعدُ :
أيها المسلمونَ : إنَّ اللعنَ كبيرةٌ من كبائرِ الذنوبِ ، ويُخْشَى
على فاعلِها من العقوبةِ في الدنيا والآخرةِ .
وإنَّ ما يفعلُه بعضُ شبابِنا اليومَ وغيرُهم من تبادُلِ بعضِهم
التَّحِيَّةَ بالتَّلاعُنِ هو أمرٌ منكرٌ وخطيرٌ جدًا ، قالَ تعالَى : ﴿مَا
يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ .
روى البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه أنَّ
النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ
بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا ، يَهْوِيِ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ
مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ، رواه البخاريُّ ومُسْلِمٌ ، ولذلك
فإنَّ من الواجبِ على الآباءِ والأمَّهَاتِ تحذيرَ الأطفالِ منه حتى لا يعتادُوا
عليه إذا كَبِرُوا .
أيها المسلمون : نَزِّهوا ألسنَتَكم من الزَّللِ والخطأِ وما حَرَّمَ
اللهُ من القولِ ، واعلمُوا أنَّ ما يقولُه المرءُ محاسَبٌ عليه ، كما أنَّه
محاسَبٌ على مُعْتَقَدِه وفعلِه ، فكذلك هو محاسَبٌ على قولِه ، ولهذا لا يَصِحُّ
قولُ مَنْ قَالَ : إنَّ نيَّتي طَيِّبَةٌ ، أو أنِّي لا أقصدُ الخَطَأَ ، فيُقَالُ
لهذا وأمثالِه : إنَّ ما يقولُه المرءُ مُحَاسَبٌ عليه ، كما أنَّه مُحَاسَبٌ على
مُعْتَقَدِه وفِعْلِه .
🔘🔘🔘
تعليقات
إرسال تعليق