الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ،
نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ،
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ
تَسْلِيمًا كثيرًا, أمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: نَقِفُ
الْيَوْمَ مَعَكُمْ وَقْفَةً مَعَ سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ؛
وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ:
يُخْبِرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ أَحْدَاثٍ سَتَقَعُ فِي يَوْمِ
الْقِيَامَةِ, وَقَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ, فِي آخِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛
فَسَوْفَ تَرْتَجِفُ الْأَرْضُ وَتَتَزَلْزَلُ, وَمِنْ هَوْلِ ذَلِكَ لَا يَبْقَى
عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ وَلَا مَعَالِمُ؛ فَالْجِبَالُ قَدْ دَكَّهَا رَبِّي
دَكًّا, وَتُسَوَّى تِلَالُهَا, حَتَّى تَكُونَ قَاعًا صَفْصَفًا، فَلَا تَرَى
فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا؛ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ
يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا
عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ
وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[طه: 105 -
108].
فَيَوْمُ الزَّلْزَلَةِ يَوْمٌ
مُخِيفٌ، قَالَ -تَعَالَى-: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى
النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ
شَدِيدٌ)[الحج: 1، 2].
وَمِنْ هَوْلِ تِلْكَ
الزَّلْزَلَةِ تُخْرِجُ الْأَرْضُ مَا فِي جَوْفِهَا مِنْ مَوْتَى وَكُنُوزٍ
وَمَعَادِنَ، إِنَّهُ مَشْهَدٌ مَهِيبٌ, وَمَوْقِفٌ مُرَوِّعٌ, ومَنْظَرٌ يَخْلَعُ
الْقُلُوبَ، وَمِنْ هَوْلِهِ تَشِيبُ رُؤُوسُ الْمَوَالِيدِ، وَتُسْقِطُ ذَوَاتُ
الْأَحْمَالِ حَمْلَهُنَّ.
وَحِينَمَا تَقَعُ
الزَّلْزَلَةُ؛ يَتَسَاءَلُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ الضَّعِيفُ: مَا
لَهَا؟! مَا الْخَطْبُ؟! وَمَا الْأَمْرُ؟! وَمَا الَّذِي حَصَلَ وَحَدَثَ؟! مَا
السَّبَبُ؟! وَمَا هَذَا الَّذِي أَصَابَهَا؟! وَيَتَسَاءَلُ متَعَجُّبًا: مَنِ
الَّذِي حَرَّكَهَا؟! لَقَدْ كَانَتْ قَارَّةً ثَابِتَةً مُسْتَقِرَّةً؛
فَتَقَلَّبَ الْحَالُ، فأصابه الْخَوْفِ وَالْهَلَعِ؛ وَلِمَ لَا يخاف وهي
تَرْتَجِفُ وَتُدَك!, فَلَوْ وَقَعَ زِلْزَالٌ فِي سَاحَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ
الْأَرْضِ لَفَزِعَ النَّاسُ من الخوف والهلع؛ فَكَيْفَ بِهَذِهِ الزَّلْزَلَةِ
العظيمة, الَّتِي عَمَّتِ الْأَرْضَ وَطَمَّتْ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا شِبْرُ
إِلَّا وَأَصَابَتْهُ تِلْكَ الزَّلْزَلَةُ؛ (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)[المزمل: 14].
وَالْهَلَعُ عَظِيمٌ,
وَالْخَطْبُ جَسِيمٌ، ومن شدة الْخَوْفِ وَالْهَلَعِ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّمْتُ
أَمَامَ هَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ، وَيَتَسَاءَلُ عَنْ أسبابِ تِلكَ
الزَّلْزَلَة, فَيَأْتِيهُ الْجَوَابُ: بِأَنَّ هَذَ الْحَدَثَ العظيم
وَقَعَ بِأَمْرِ وَوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْأَرْضِ، لَا مَجَالَ لِلْأَرْضِ
أَنْ تَتَأَخَّرَ عَنْ تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ)[الانشقاق: 2], فَالْجَمَادُ إِذَا صَدَرَ لَهُ الْأَمْرُ
مِنَ اللَّهِ بالتحدث يَتَحَدَّثُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ
تَكَلَّمَ، وَالتَّحَدُّثُ هُنَا صَرِيحٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ تَتَغَيَّرُ الْأَوْضَاعُ، فَالْجُلُودُ سَوْفَ تَتَكَلَّمُ،
وَالْأَعْضَاءُ سَوْفَ تَشْهَدُ، فَلَقَدْ أَمَرَهَا اللَّهُ بِأَنْ تَمُورَ
مَوْرًا، وَأَنْ تَتَزَلْزَلَ زِلْزَالَهَا, وَأَنْ تُخْرِجَ أَثْقَالَهَا، وَلَا
تَتَرَدَّدُ الْأَرْضُ فِي اسْتِجَابَةِ أَمْرِ اللَّهِ, وَسَوْفَ تُحَدِّثُ
الْأَرْضُ عَنْ أَخْبَارِهَا، وَمِنْ أَخْبَارِهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
"قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-:هَذِهِ الْآيَةَ:
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)[الزلزلة: 4] قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا
أَخْبَارُهَا؟", قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ:
"فَإِنَّ أَخْبَارَهَا بِأَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا
عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، وَتَقُولَ: عَمِلَ يَوْمَ كَذَا كَذَا
وَكَذَا"(قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ
رَدًّا جَمِيلًا، وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ آجَالَنَا, أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ،
وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: .
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا
اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا
تَقْوَى.
قَالَ -تَعَالَى-: (يَوْمَئِذٍ
يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا)[الزلزلة: 6]؛ فيُغَادِرُونَ الْمَوْقِفَ وَهُوَ
الْمَحْشَرُ, أَشْتَاتًا مُتَفَرِّقِينَ، الْمُؤْمِنُونَ لِوَحْدِهِمْ،
وَالْكُفَّارُ لِوَحْدِهِمْ, فِرَاقًا لَا اجْتِمَاعَ وَلَا لِقَاءَ بَعْدَهُ،
قَالَ -تَعَالَى-: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ
يَتَفَرَّقُونَ)[الروم: 14]، وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، قَالَ اللَّهُ:
(فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ
يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ
الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)[الروم: 15، 16]، وَكَمَا
قَالَ اللَّهُ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ)[الشورى: 7].
وَقَالَ -تَعَالَى-:
(لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ)[الزلزلة: 6]؛ فَكُلٌّ يَرَى مَا قَدَّمَ مِنْ أَعْمَالِ
الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يُبَدِّلَ أَوْ يُغَيِّرَ،
أَوْ يَتَرَاجَعَ أَوْ يَتُوبَ، أَوْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ
الصَّالِحَةِ, أَوْ يُقْلِعَ أَوْ يَتُوبَ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ، قَالَ
اللَّهُ -عز وجل-: (فَمَنْ يَعْمَلْ)[الزلزلة: 7]؛ أَيْ: فِي الدُّنْيَا،
(مِثْقَالَ)[الزلزلة: 7]؛ أَيْ: وَزْنَ, (ذَرَّةٍ)[الزلزلة: 7]؛ وَهِيَ
النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ, وَقِيلَ: الْهَبْأَةُ فِي الْهَوَاءِ عِنْدَ إِشْعَاعِ
الشَّمْسِ، وَالذَرَّةُ: هِيَ أَصْغَرُ شَيْءٍ؛ فَالْعَمَلُ لَا يُهْمَلُ وَلَوْ
كَانَ قَلِيلاً، سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى-
قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 40].
فَالْأَعْمَالُ مَطْلُوبَةٌ
خَيْرُهَا وَشَرُّهَا، لَا تَضِيعُ وَلَا تُنْسَى, يَجِدُهَا صَاحِبُهَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ يُبْصِرْهُ عِيَانًا؛ فَإِمَّا
أَنْ يَسُرَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَضُرَّهُ، فَالْإِنْسَانُ لَا يُحَقِّرَنَّ
شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، لَا يَقُولُ: هَذِهِ صَغِيرَةٌ
لَا حِسَابَ لَهَا وَلَا وَزْنَ.
إِنَّ هَذَا الْمِيزَانَ لَا
يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا شَبِيهٌ لَهُ فِي الْأَرْضِ إِلَّا فِي الْقُلُوبِ
الْمُؤْمِنَةِ، الَّتِي تَخْشَى اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، قَالَ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ
أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"(رَوَاهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ)،
وَقَالَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ
الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى
يُهْلِكْنَهُ"، قَالَ -تَعَالَى-: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا
الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا
مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا
بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ
وَتَرْضَى, وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسَّلَامَةَ
وَالْإِسْلَامَ، وَانْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا, وَانْشُرِ
الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا, وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ غَيْرَ
ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ, وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ, رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ
الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.
تعليقات
إرسال تعليق