خطر الفساد ونعمة إقامة الحدود لحفظ الأمن
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ
سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا
هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى
آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتَّقُوا اللهَ تعالى،
وأصْلِحوا أنفسَكم، فإنَّ صَلاحَ النفوسِ، أوَلُ أسبابِ صَلاحِ الأُمَّةِ
وإصْلاحِها. وفَسادَ النُّفُوسِ أَوَّلُ أسْبابِ تَغَيُّرِ الأحوالِ
وتَدَهْوُرِها. كما قالَ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). ثُمَّ إنَّ الإصْلاحَ لا يَكونُ إصْلاحًا إلا
إذا كان بالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ، والبُعْدِ عن مُخالَفَةِ أمْرِ اللهِ وأمْرِ
رسولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم. فإن مَنْ تَدَبَّرَ نُصُوصَ الكتابِ والسُّنَّة،
وَجَدَ كُلَّ صَلاحٍ في الأرضِ، فَسَبُبُهُ توحيدُ اللهِ وعبادتُه، وطاعةُ رسولِه.
وكُلَّ شَرٍّ في العالمِ، وفتنةٍ وبلاءٍ وقحْطٍ، وتسليطِ عَدُوٍّ، وغيرِ ذلك،
فَسَبُبُهُ مُخالَفَةُ أَمْرِ اللهِ، وأَمْرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: إنَّ الفسادَ والإصلاحَ أمْرانِ
مُتَضادَّانِ، وكُلٌّ يَدَّعِي لِنَفسِه أنه المُصْلِح، ولكن كما قال الله تعالى:
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ).
وأَخْطَرُ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ في هذا
البابِ: أنْ يَسْعَى الْمَرْءُ بالفسادِ في الأرض، ويَدَّعِي مع ذلك أنه مُصلِح،
كما قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا
يَشْعُرُونَ). وهذا مِنْ أشَدِّ ما يكونُ في الإفسادِ، كَما هِيَ حالُ المنافقين،
وكُلِّ مَنْ كان بِمِثْلِ صِفَتِهِم. وقد دَلَّ على ذلك أيضاً قولُه تعالى: (
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا ). فإن هذه الآيةَ عند
السلفِ أشمَلُ من الأُولى، حيثُ نَصُّوا في تفسيرِها على كُفارِ مَكةَ، وأهلِ
البدعِ والأهواءِ، والخوارجِ الذين يَسْتَحِلُّونَ دماءَ الْمسلمينَ وأموالَهُم،
وكُلِ مَن يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ ويَرَى أَنَّها حَسَنَةٌ. ولِذلك قال السَّلَفُ:
" الشيطانُ أَفْرَحُ بالبِدْعَةِ مِنَ الْمَعْصيةِ، لأن الْمَعْصِيَةَ يُتابُ
مِنها، والبدعةَ لا يُتابُ منها ".
وقد ذكَرَ أهلُ العِلمِ جُمْلَةً مِن
الفوائِدِ الْمُتَعَلِّقةِ بهذه الآيات:
أولها: أَنَّ النِّفاقَ الذي هو إِظْهارُ
الإسلامِ، وإبطانُ الكُفْرِ، مِن أعظَمِ الفسادِ في الأرض، لقوله تعالى: ( وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ) أي: وإذا قيل للمنافقين، لِأَنَّها
نَزَلَت فِيهِم.
ومن الفوائِدِ أيضاً: أن مِن أعظمِ
البَلْوَى أَنْ يُزَيَّنَ للإنسانِ الفسادُ حتى يَرى أَنَّه مُصْلِحٌ، لِقولِهم: (
إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ). معَ العِلْم أنَّ فِعْلَهُم هو عينُ الفسادِ،
نعوذُ باللهِ مِن طَمْسِ القلبِ وفسادِ التَصَوُّر.
ومن الفوائِدِ أيضاً: أنه ليسَ كُلُّ مَن
ادَّعَى شيئًا يُصَدَّقُ في دَعْواه، لأنَّهُم قالُوا: ( إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ )، فقال اللهُ تعالى: ( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ). فلا
يَجُوزُ للمُسْلِمِ أنْ يُسَلِّمَ عَقْلَه لِكُلِّ أحَد. بَلْ يَلْتَزِمُ
الْمنهَجَ الشرعيَّ في مَعْرِفَةِ الحَقِّ, ويَسْتَشِيرُ أهلَ العِلْمِ الراسخينَ،
فإن العُلماءَ ورَثَةُ الأنبياءِ، وأمانٌ لِلناسِ بعدَ اللهِ مِنَ الوقوعِ في
الضَّلَالِ.
ومن الفوائِدِ أيضاً: أن الإنسانَ قد
يُبْتَلَى بالإفسادِ في الأرضِ، ويَخْفَى عليهِ أَنَّه مُفْسِدٌ، عُقُوبَةً لَهُ
مِنَ اللهِ، لأنه أعْرَضَ عن دينِ الله، أو أعْرَضَ عن المنهجِ الشرعِيِّ في الإصلاح،
أو استحقَرَ عِبادَ اللهِ الْمؤمنين، لقوله تعالى: ( وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ).
أي لا يَشْعُرونَ أنهم مُفْسِدون.
وهذا أَحَدُ الأسْرارِ الخطيرَةِ التي
يَنْتَشِرُ بِسَبَبِها الشَّرُّ والباطِل. فَأصُولُ الإسلامِ تُحارَبُ، باسمِ
حُرِّيَّةِ الفِكرِ والحَرْبِ على الطائِفيَّةِ. وتَطْبيقُ الحُدُودِ يُحارَبُ
باسمِ التسامُحِ وحُقُوقِ الإنسانِ، وأهْلُ العِلْمِ يُتَنَقَّصُون ويُسْخَرُ مِن
فتاواهُم واجْتِهاداتِهِم، ويُتَّهَمُونَ بالظَّلَامِيَّةِ والآحادِيَّةِ، باسْمِ
التعَدُّدِيَّةِ والتَنويرِ. والخوارجُ يُكَفِّرُونَ الْمُسلمين، ويَسْفِكون
الدماءَ الْمَعْصُومَةَ، ويُرَوِّعُون الآمِنين، ويُوالُونَ أَعْداءَ أُمَّتِهِم
وَوَطَنِهِمْ داخِلَ بِلادِهِمْ وخارِجَها، ويَنْشُرُون الفَوْضَى والاختلافَ
والفتنةَ في الأُمَّةِ باسْمِ الإصْلاحِ والجِهادِ ونُصْرَةِ الإسلامْ.
نعوذُ باللهِ مِنَ الضلالِ بعدَ الهُدى،
والـحـَـوْرِ بَعْدَ الكَـوْر.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ
الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ
الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين،
وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا
إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً
كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ الله: ومِن الفَوائِدِ التي ذَكَرَها
العُلَماءُ في هذِهِ الآياتِ: أنَّه لَيْسَ كُلُّ ما زَيَّنَتْهُ النفْسُ يكونُ
حَسَنًا، حتى يُعْرَضَ على الكتابِ والسنةِ، ويُفْهَمَ فَهْمًا صَحيحًا، قال
تعالى: (أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ). وقد ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ بأنَّ
الخوارِجَ مَعْنِيُّونَ بذلك. ومَنْ تأَمَّلَ حالَهُم وأفعالَهم، عَرَفَ ذلك، بَلْ
إنهم أخْطَرُ مِن غَيْرِهِم، لِأَنَّهُم يَلْبَسُونَ لِباسَ الدّينِ، وَلأنَّ
غَيْرَهُمْ إذا عُرِضَ عَلَيه السَّيْفُ، كَفَّ عن فِعْلَتِه، وأما الخَوَارِجُ
فإنهم يَقْتُلُون أَنْفسَهُم وغَيْرَهُم، بَلْ ويَقْتُلُونَ أَقْرَبَ الناسِ
إلَيْهِمْ في سبيلِ عقيدتِهِم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في شَأْنِهِم: (لَإنْ
أدْرَكتُهُم لَأَقْتُلَنَّهُم قَتْلَ عاد) وقال أيضاً: (طُوبَى لِمَن قَتَلَهُم
أَوْ قَتَلُوه). لِأَنَّه لا يَنْفَعُ مَعَهُم شيءٌ إلا القَتْلُ، بِخلافِ
غَيْرِهِم.
وَلَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلى هذه البِلادِ
بِنِعْمَةِ الإسلامِ وللهِ الحَمْدِ، وتَحْكِيمِ شَرْعِ اللهِ، وتَنْفِيذِ حُكْمِ
اللهِ عَلى الْمارِقِينَ مِن الفِئَةِ الضَّالَّةِ وَرَثَةِ الخَوارِجِ، بِما
اسْتَحَلُّوهُ مِن سَفْكِ الدَّمِ الحَرامِ وَقَتْلِ الأَنْفُسِ الْمَعْصُومَةِ،
والدَّعْوَةِ إلى الخُرُوجِ عَلى وُلاةِ الأَمْرِ، وزَعْزَعِة الأَمْنِ وتَرْوِيعِ
الآمِنِينَ، وتَعْريضِ مَصالِحِ وَطَنِهِم ومُدَّخَراتِهِ لِلْخَرابِ.
وَيُشارِكُ الخَوارِجَ وأَهْلَ التَكْفِيرِ
في هذا الفَسادِ: كُلُّ مَن يَتَواصَلُ وَيَتَعاوَنُ ويَتَخابَرُ مَعَ دُوَلٍ أوْ
مُنَظّماتٍ مُعادِيَةٍ لِلتَحْرِيضِ وَبَثِّ الفِتْنَةِ والانْقِسامِ وَتَقْوِيضِ
الأَمْنِ والاسْتِقْرارِ فإِنَّها جَرِيمَةٌ كُبْرَى وخِيانَةٌ وعارٌ يَجِبُ
رَدْعُ فاعِلِها لِأَنَّه يَسْتَحِيلُ أَنْ تَصْدُرَ مِمَّن عنْدَهْ ذَرَّةُ
رُجُولَةٍ فَضْلاً عَن الدِّينِ والخُلُقِ والمَنْهَجِ السَّلِيمِ.
فيا أيُّها المُسلمون: اتَّقُوا اللهَ في
أنفُسِكُم، واعْلَمُوا أَنَّ مَعْرِفَةَ الحقِّ لا تَكونُ بالهَوَى واستِحْساناتِ
العُقُولِ، فإنَّ اللهَ تعالى قال في كتابِه: ( فاسْتَقِم كما أُمِرْت ). ولَمْ
يَقُلُ: فاسْتَقِمْ كما هَوَيْت.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا
الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن،
اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا
بالصالحين، واحفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام
راقدين ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً
ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام،
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم
واحدة واجعلهم يداً واحدةً واجعلهم قوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم
منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، اللهم أيّدهم
بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة وبصّرهم
بأعدائهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لنا ويتربص بنا
الدوائر يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
تعليقات
إرسال تعليق