الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق الأرض والسماوات العلا, الرحمن
على الرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى, وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعد المؤمنين الدرجات العلى, وتوعد من عصاه
بعذاب جهنم وساءت نزلاً .
وأشهد أن محمد عبده ورسوله أكمل المومنين إيمانا
وأزكاهم خلقا وصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء وعلى من
تبعهم بإحسان واقتفى .
أما بعد يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
عباد الله: ربكم يقلب الأيام ويكور الليل على
النهار وينوع الأحوال على العباد, فتارة يأتي على الخلائق شتاءٌ بارد وزمهرير
قارص, وأخرى يأتي عليهم صيفٌ حار, وأخرى بين ذلك, وكل كذلك بتدبير العزيز الحكيم
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) .
ومع حلول البرد فإنه يجمل بالمرء أن يتأمل في
الشتاء من حكم وأسرار, ونصوص وآثار.
وأول ما يقال في هذا المجال: أن تعلم أن تقليب الله
للأجواء, ما بين ربيع وخريف وصيف وشتاء, إنما هو لحِكَمٍ عظيمة على الخلائق
والبلاد وإن خفيت على العباد.
ومن لطف الله أن قدّر البرد أوقاتاً لتصلح حياة
الناس, ويزين معاشهم, وتصح أبدانهم وأرضهم, والحكيم سبحانه لا يقدر عبثا ولا يخلق
سدى .
قال ابن القيم: "ثم تأمل بعد ذلك أحوالَ هذه
الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول, وما فيها من المصالح
والحكم, إذ لو كان الزمان كله فصلاً واحداً لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه, فلو
كان صيفا كله لفاتت منافع مصالح الشتاء" ثم ذكر منافع الشتاء والبرد .
معشر الفضلاء: وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "قَالَتِ النَّارُ:
رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا. فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ, فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ:
نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ
زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ, وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أو حَرور فمن
نفس جهنم"
فيوم أن يشتد البرد فاذكر به برد جهنم وأن العذاب
كما يكون فيها بالحرارة يكون بالبرودة والله على كل شيء قدير, فهنيئا لمن كان شدة
البردِ واعظاً له ومذكّراً لأن يعمل ما يجنبه من برد النار وعذابها.
عباد الله: وحلولُ الشتاء يجعلنا نَذكُر إنعامَ
المولى علينا, وسائل تدفئة, وبيوتٌ مُحكَمة, وملابسُ تقي البردَ وشدته, ووالله
إنها لنعمةٌ تستوجب الشكر والحمد لله, فكم يعاني كثيرٌ من المسلمين اليوم في
أصقاعٍ من الأرض في بردٍ لا كبردنا, يأتيهم بلا لباس ولا مسكن ولا غذاء, فلك أن
تتصور شدة وقعه عليهم, ولك أن تتصور شدة البرد على الأطفال هناك, وأنت قد هيئات
لأولادك كُلَّ ما يدفئهم, وأنت في مسكنك آمنٌ مستوطن, فاحمد الله ربك, وكن من
الشاكرين, وأعيذك بالله من حال أقوامٍ لا تزيدهم نعم الله إلا عصياناً وإعراضاً.
وبعد حمد ربنا وشكره, لا تنس الوقوفَ مع الفقراء
والمعوزين, تفقّد حالهم, ومُدَّ العون لهم, ارحمهم لِيَعُمَّكَ ربُكَ بالرحمة,
فالراحمون يرحمهم الرحمن.
يا كرام: والشتاء موسمٌ لجملة من العبادات تشرُف
فيه وتَسهُل, فالصومُ في نهاره القصير, والقيامُ في ليله الطويل, أمرٌ يتحراه
الصالحون لِيُسرِه وعِظَمِ أجرِه, وفي الحديث المروي بسند فيه كلام
"الشِّتَاءُ رَبِيعُ المُؤْمِنُ طَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ، وَقَصُرَ
نَهَارُهُ فَصَامَهُ".
قال ابنُ رَجَبٍ: إِنَّمَا كَانَ الشِّتَاءُ
رَبِيعُ المُؤْمِنِ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَعُ فِيهِ فِي بَسَاتِينِ الطَاعَاتِ،
وَيَسْرَحُ فِي مَيَادِينِ العِبَادَاتِ، وَيُنَزِّهُ قَلْبَهُ فِي رِيَاضِ
الأَعْمَالِ المُيَسَّرةِ فِيهِ، كَمَا تَرْعَى البَهَائِمُ فِي مَرعَى الرَّبِيعِ
فَتَسْمَنُ وَتَصْلُحُ أَجْسَادُهَا، فَكَذَلِكَ يَصلُحُ دِينُ المُؤْمِنِ فِي
الشِتَاءِ بِمَا يَسَّرَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ مِنَ الطَّاعَاتِ".
وبوب الترمذي في سننه عن الشتاء وأورد فيه حديث
عامر بن مسعود أن رسول الله قال " الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء "
وقال ابن مسعود: مرحباً بالشتاء تنزل فيه البركة،
يطول فيه الليل للقيام ويقصُر فيه النهار للصيام"
وبكى معاذٌ عند موته، فلما سُئل عن ذلك قال:
"إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيامِ ليل الشتاء، ومزاحمةِ العلماء بالرُّكَب
عندَ حِلَقِ الذكر".
عباد الله: ومع نزول الأمطار فالحمد لربنا على ما
أنعم وأسدى, وله في ذلك الفضلُ وحده, وفي نزوله تحيا الأرض بعد أن كانت مواتاً,
وذاك واعظٌ يذكِّرُنا بالبعث والنشور, وحشرِ الناس وخروجهم من القبور (وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(
فإذا رأيت الربيعَ في الأرض فاذكر النشورَ؛ فإن
الله سيبعث الموتى، ويُخرجهم من الأرض كما يُخرج النباتَ من الأرض (وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ
إِخْرَاجًا(
اللهم ارزقنا الاعتبار والشكر.
الحمد لله وحده أما بعد:
إن من العقل عدمَ التساهل بالبرد, وقد امتن ربنا
على العباد أن هيأ لهم ما يدفئهم فقال (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا
دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) وقال (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا
أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) فاحمد المولى أن هيأ لك لذلك, وقد كتب عُمر رضي
الله عنه إلى عُمَّاله ووُلاتِه لما حضر الشتاءُ، يقول لهم: "إن الشَّتاءَ قد
حضَرَ وهو عدوٌّ لكم، فتأهَّبُوا له أُهبتَه من الصُّوفِ والخِفافِ والجوارِب،
واتَّخِذوا الصُّوفَ شِعارًا"، أي: مما يلِي الأجساد، "ودِثارًا"،
أي: فوق الملابِس، "فإنَّ البردَ عدوٌّ سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجُه".
عباد الله: ومع الشتاء وبرودة الماء يَعظُم ثوابُ
الوضوء وإسباغُه لوجودِ المشقة, وفي الصحيح "ألَا أدلُّكم على ما يمحو اللهُ
به الخطايا ويرفع به الدرجاتِ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على
المكاره.." فتحر في وضوءك, ولا تُقصِّر في إسباغه وإتمامه تنلِ الأجر.
عباد الله: وللشتاء أحكامٌ ينبغي على المرء تعلمها,
وعلى ولي الأسرة في بيته, والمدرسِ في مدرسته تذاكُرها, فأحكامُ المسح على الخفين,
والجمعِ في الصلاة في المطر, وما يُسَنُّ ويُشرَعُ عند نزول المطر, أمورٌ ينبغي
التذكير بها وتعلمها, وربنا قد جعل لنا في كل حال عبودية, وفي كل حدَثٍ قُربة.
وبعد: وأنت تخرج متنزهاً في هذه الأيام فلتكن
رحلاتك مجالَ تفكرٍ وتأملٍ في صنع ربك, لِيَعْظُمَ أجرُك ويقوى إيمانُك, انظر كيف
أخرج ربك الزروع بألوان متعددة وأشكال مختلفة, من ماء واحد وفي مكان واحد.
(هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ
فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ
النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ)
تفكَّر في نباتِ الأرضِ وانظرْ ** إلى آثارِ ما
صنَع المليـكُ
عيونٌ من لجيـنٍ ناظـراتٌ **بأحداقٍ هي الذهبُ
السبيكُ
على قُضُبِ الزبرجدِ شاهداتٌ ** بأنَّ الله لَيس
لـه شريـك
وما الشتاءُ ببرده, والصيفُ بحره, بل وما الزمن
بتقلبه, بل وما العمر كله بما فيه, إلا ميدانَ عمل وأوانَ تعبد, وخزائن تزود, وكل
ذلك سيمضي, ويبقى لك ما أودعت من صالح أو سيء.
اللهم أصلح أعمالنا, واجعلنا ممن تزيده الأيام منك
قرباً
تعليقات
إرسال تعليق